recent
أخبار ساخنة

### **"الحياة بعد سهام": رحلة سينمائية في أرخبيل الذاكرة والغياب**

الصفحة الرئيسية

 

### **"الحياة بعد سهام": رحلة سينمائية في أرخبيل الذاكرة والغياب**

 

في قلب كل عائلة، هناك قصصٌ تُروى وقصصٌ تُطوى، ذكرياتٌ تتلألأ كالجواهر وأخرى تُدفن في صمتٍ ثقيل. لكن ماذا يحدث حين يرحل الشخص الذي كان محور تلك القصص، وحافظ أسرارها؟ ماذا يتبقى حين تغيب الأم، ذلك الركن الذي يستند إليه بناء الأسرة بأكمله؟ هذه هي المنطقة الوجودية الشائكة التي يغوص فيها المخرج المصري-الفرنسي نمير عبد المسيح في فيلمه الوثائقي المؤثر والعميق، "الحياة بعد سهام"، الذي كان أحد أبرز العروض في تظاهرة "أسيد" الموازية لمهرجان كان السينمائي.

في قلب كل عائلة، هناك قصصٌ تُروى وقصصٌ تُطوى، ذكرياتٌ تتلألأ كالجواهر وأخرى تُدفن في صمتٍ ثقيل. لكن ماذا يحدث حين يرحل الشخص الذي كان محور تلك القصص، وحافظ أسرارها؟ ماذا يتبقى حين تغيب الأم، ذلك الركن الذي يستند إليه بناء الأسرة بأكمله؟ هذه هي المنطقة الوجودية الشائكة التي يغوص فيها المخرج المصري-الفرنسي نمير عبد المسيح في فيلمه الوثائقي المؤثر والعميق، "الحياة بعد سهام"، الذي كان أحد أبرز العروض في تظاهرة "أسيد" الموازية لمهرجان كان السينمائي.
### **"الحياة بعد سهام": رحلة سينمائية في أرخبيل الذاكرة والغياب**


### **"الحياة بعد سهام": رحلة سينمائية في أرخبيل الذاكرة والغياب**


  • لا يقدم الفيلم نفسه كمرثية تقليدية، بل كرحلة حفرٍ أركيولوجي في طبقات الذاكرة العائلية، محاولةً
  •  من الابن/المخرج لفهم ليس فقط موت والدته "سهام"، بل حياتها التي لم يعرفها بالكامل. إنه
  •  تحقيقٌ سينمائي ينطلق من سؤال بسيط وموجع في آنٍ واحد: "كيف يمكن لأم أن ترحل بهذه
  •  البساطة؟". من هذا التساؤل، تتفرع أسئلة أخرى أكثر تعقيداً حول الهوية، والانتماء، والحقيقة
  •  المراوغة التي تتشكل من روايات متضاربة.

#### **السينما كأداة لمواجهة الفقد**

 

يضعنا نمير عبد المسيح أمام تجربة سينمائية فريدة، حيث تتداخل هويته كصانع أفلام مع دوره كابنٍ مفجوع. هذا التداخل ليس مجرد خيار فني، بل هو ضرورة حتمية فرضها ثقل التجربة. فبعد فيلمه السابق "العذراء والأقباط وأنا"، الذي استكشف فيه جذوره وهويته الدينية

  •  يعود عبد المسيح بعد أكثر من عقد من الزمن، وهي فترة زمنية لم تكن استراحة بقدر ما كانت فترة
  •  نضجٍ وتخمّر للتجربة الحياتية التي ستشكل مادة فيلمه الجديد. يقول المخرج إن "السينما هي وسيلة
  •  لقبول فكرة مفادها أننا سنرحل"، وبهذا المعنى، يصبح الفيلم طقساً شخصياً لمواجهة حتمية الفناء،
  •  ومحاولة لتخليد ما لا يمكن استعادته.

 

تبدأ الحكاية بعد رحيل سهام، الأم، التي تركت خلفها فراغاً مدوياً ووعداً غامضاً يقرر الابن السعي لتحقيقه، أو ربما هو من اختلقه ليمنح بحثه هدفاً ومعنى. هذا البحث يعيدنا إلى جذور العائلة في مصر خلال حقبة الستينيات، ثم يقفز بنا إلى حاضرها في فرنسا، في حركة بندولية بين وطن الجذور ووطن المنفى.

 

#### **فسيفساء الذاكرة بين الأرشيف والحاضر**

 

يبرع عبد المسيح في بناء فيلمه كفسيفساء بصرية ووجدانية معقدة. هو لا يعتمد على السرد الخطي، بل ينسج خيوط حكايته من مواد مختلفة: لقطات أرشيفية عائلية "هوم فيديو" دافئة وحميمية، صور فوتوغرافية قديمة تجمد لحظات من ماضٍ سعيد، ومقابلات حالية مع أفراد العائلة، خصوصاً الأب "وجيه"، الذي يمثل قطباً آخر في هذه الدراما العائلية. كل عنصر من هذه العناصر ليس مجرد قطعة من الماضي، بل هو شاهد صامت يعيد المخرج استنطاقه في ضوء الغياب.

 

  1. تتحول اللقطات القديمة تحت وطأة الحزن إلى أدلة في قضية لم تُغلق. وجه سهام الشابة، ابتسامتها
  2.  نظراتها؛ كل شيء يصبح موضع تساؤل. هل كانت سعيدة حقاً؟ ما الذي كانت تخفيه خلف ذلك
  3.  الهدوء؟ يصبح الفيلم حواراً بين الأشباح والأحياء، حيث يحاول الابن أن يجمع شتات صورة والدته
  4.  من بقايا الذكريات وروايات الآخرين المتناقضة.

 

#### **الأم والابن والأب ثلاث زوايا لرواية واحدة**

 

"الحياة بعد سهام" هو في جوهره فيلم عن تعدد الروايات. فالحقيقة ليست كتلة صلبة، بل هي سائل يتشكل حسب الوعاء الذي يحتويه. هناك رواية الأم التي تصلنا عبر ذكراها، ورواية الأب الحاضر بجسده والغارق في صمته، ورواية الابن الذي يقف في المنتصف، محاولاً بناء جسر بين ضفتين متباعدتين.

 

  1. **سهام**، الأم الغائبة، هي الحاضرة الأقوى في الفيلم. يتمرد الفيلم على الصورة النمطية للأم
  2.  الأيقونة المنزهة. نكتشف مع المخرج أنها لم تكن مجرد أم، بل كانت امرأة لها أحلامها وإحباطاتها
  3.  وتمردها الصامت. كانت، كما يصفها الفيلم، "جداراً داخلياً" في روح ابنها، لكنه جدار له شروخه
  4.  وأسراره التي لم تظهر إلا بعد انهياره.

 

**الأب وجيه**، هو شخصية تراجيدية بامتياز. هو الرجل الذي اختار "المنفى الداخلي" سبيلاً للتعايش. صمته وتحفظه وخشيته من الكلمات ليست دليلاً على اللامبالاة، بل ربما هي آلية دفاعية لرجل يحمل تاريخاً من الخسارات. روايته، حين يبوح بها، تأتي متقطعة ومختلفة عن رواية الأم، مما يضع الابن والمشاهد في حيرة: أيهما نصدق؟ وهل هناك حقيقة واحدة أصلاً؟

 

**نمير عبد المسيح**، الابن والمخرج، ليس مجرد راوٍ محايد. كاميرته ليست موضوعية، بل هي عين ذاتية تبحث وتتساءل وتتألم. هو يدرك تماماً فخاخ السينما الوثائقية العائلية، ولكنه يختار أن يقتحمها بوعي، مدركاً أن بحثه عن والديه هو في النهاية بحثٌ عن نفسه.

 

#### **حوار مع السينما والتاريخ**

 

يتجاوز الفيلم كونه مجرد سيرة ذاتية عائلية ليقيم حواراً ضمنياً مع سياقات أوسع. الإشارة إلى سينما يوسف شاهين، خصوصاً أفلامه التي مزجت بين السيرة الذاتية والتاريخ الوطني (مثل "إسكندرية ليه؟")، ليست عابرة. فكما استخدم شاهين تاريخه الشخصي لفهم تحولات مصر، يستخدم عبد المسيح تاريخ عائلته الصغير كعدسة مكبرة لفهم مواضيع كبرى كالهجرة، والاغتراب، وتأثير التحولات السياسية والاجتماعية على مصائر الأفراد.

 

  • مصر في الفيلم ليست مجرد مكان، بل هي فكرة، هي الأصل الذي لا يزال يلقي بظلاله على الحاضر
  •  في فرنسا. وكيف يصبح الوطن شيئاً داخلياً نحمله معنا، وجعاً قديماً، وحنيناً لا ينطفئ، هو أحد الأسئلة
  •  الجوهرية التي يطرحها الفيلم.

 

#### ** بيتٌ على رمال متحركة**

 

في نهاية المطاف، لا يقدم "الحياة بعد سهام" إجابات شافية أو خاتمة مريحة. لا يوجد شفاء كامل من الفقد، ولا توجد حقيقة نهائية يمكن التوصل إليها. يتركنا الفيلم مع صورة الابن وهو يحاول أن يبني بيتاً من ذكرياته على "رمال متحركة"، مدركاً أن أساس هذا البيت هو التناقض والشك والأسئلة المفتوحة.

 الختام

تكمن قوة الفيلم في صدقه وشجاعته على عرض هذه الفوضى الداخلية دون تجميل. إنه اعتراف بأن أجمل ما في العلاقات الإنسانية وأكثرها إيلاماً هو استحالة فهم الآخر بشكل كامل. وأن الحياة بعد رحيل من نحب، ليست حياة "بدونهم"، بل هي حياة "مع غيابهم"، وهو غياب له حضوره الكثيف الذي يعيد تشكيل كل شيء من حولنا.

 "الحياة بعد سهام" هو فيلم مرهف وذكي، يثبت أن أكثر القصص شخصية هي غالباً أكثرها عالمية، وأن في عمق كل حزن عائلي تكمن حقيقة إنسانية كونية.

### **"الحياة بعد سهام": رحلة سينمائية في أرخبيل الذاكرة والغياب**


author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent